عتمة، أو: في رثاء الأب

أعبرُ صور والدي كما أعبر متحفًا حزينا في الليل.

وحيدةً.. رغم أني لستُ الزائر الوحيد لهاتِه الصور،

لكنّ زيارتي لها وحيدة جدًا.

لعلّي لستُ العابرَ،

بل الردهة في عزلتها، تحتشد بالأنفس في النهار، وتخلو لحزنها في الليل.

الردهة تمد يدًا، تستوقف الزائر العابرَ: انظرْ، هنا سقط قلبي.

والعابر يلتفتُ بلطفٍ، يهز رأسًا متفهمةً – أو تدّعي ذلك-،

ينظر، يراكِ فراغًا محيرًا، يرى اللوحةَ القديمة،

لا يرى القلب الذي سقط.

العابر يعرفُ أنه هناك، لأنكِ قلتِ إنه هناك،

لكنه – هذا القلب-،

مثل خطوطٍ خفيةٍ للوحةٍ أخرى خلف اللوحة الظاهرة،

غير مرئيّ.

*

في البدء كانت العتمة،

عتمةٌ دبقة ضربت فيها أشباح الراحلين عصًا فانسابت ينابيع الضوءِ في الذاكرة، ذاكرة الفتوة والجوعِ والأمل.

لا أملك غير الصور، صور الظل. الأصوات تتبدّلُ في رأسي كل مرة، أحسبُ أني طبعت تفاصيلها حقةً في الذاكرة، فيفزعني نقصانها المستمر.

أشق وجه الليل، أشق طريقي في مرارة عتمته. أنزع عنه أردية النسيان الثقيلة، أتحسس كأعمىً خيال صورٍ ما كان له أن يراها.

في البدء كانت..

وصوتُ والدي يبددها بترتيلة “قُل” حتى تخلد الغيلان والجنيات في رأسي إلى عوالمها السفلية.

في البدء..

“كانت له عينان ملحاوان”، صوتُ أخته سلمى، والبسمةُ تحط على شفتيها كطير، تستعيد ولادته وكأنها حضرتها البارحة.

في..

لكن العتمة شديدة يا أبي.

*