عدوّ المرأة الألدّ؟ افتقارها وقتًا خاصّا | بريجيد شولتي

7095062

قبل بضعة أشهر، وفيم كنت أجاهد لإيجاد فسحةٍ من الوقت للكتابة في ازدحام أيامي، اقترح عليّ صديق قراءة كتابٍ عن الطقوس اليومية للكتّاب العظماء. لكنْ عوضًا عن منحي الإلهام الذي كنت أرجوه، كان أشدّ ما صدمني فيما يتعلق بهؤلاء العباقرة المبدعين – ومعظمهم من الرجال- ليس جداولهم أو روتينهم اليومي، بل النسوة في حياتهم.

إذ عملت زوجاتهم على دفعِ المقاطَعات عنهم؛ وحملت لهم مدبّرات منازلهم والخادمات الإفطارَ والقهوة في أيّة ساعة؛ وأبقت المربيّات أطفالهم بعيدًا عن مضايقتهم. لم تكتف مارثا فرويد بتجهيز ملابس سيغموند كل صباح، بل كانت تضع المعجون على فرشاته حتى. أما سيليست، مدبرة منزل مارسيل بروست، فلم تجلب له قهوته اليومية والكروسان والجرائد والبريد على صفيحٍ من فضة فحسب، بل كانت متوفرة دائمًا متى ما أراد الثرثرة، لساعاتٍ أحيانا. لم تُذكَر نسوة أخريات إلا بما اضطررن لتحمله فقط، كزوجة كارل ماركس- لم يسمِّها الكتاب- التي عاشت في بؤسٍ برفقة بنيها الثلاثة الأحياء من أصل ستة أطفال، فيم أمضى ماركس أيامه يكتب في المتحف البريطانيّ.

تزوّج غوستاف مالر مؤلفة موسيقية شابةً وَواعدة، تدعى ألما، ثم منعها من التأليف الموسيقي، قائلَا ألّا متسع في الأسرة إلا لمؤلف واحد. كان عليها عوضًا عن ذلك أن تُبقي البيت مطبقَ الصمت لأجله. بعد سباحة العصر، يصفرُ غوستاف لألما كي تصحبه في مشيٍ صامتٍ طويل وهو ينظم اللحن في رأسه. كانت تجلس لساعاتٍ على غصنٍ أو على العشب، دون الجرأة على إزعاجه. “ثمة صراع يضطرم داخلي!” كتبت ألما في مذكراتها. “وحنين بائس لشخصٍ يفكّر فيَ أنا، شخص يساعدني على إيجاد نفسي! لقد انحدرت إلى دورِ مدبرة منزل.”

على النقيض من الرجال المبدعين، الذين أمضوا حياتهم كما لو أن وقتًا دونَ قيدٍ حقٌ مكتسب بالولادة، فإن مسار الحياة وأيّامها لحفنة المبدعات اللواتي ورد ذكرهنَّ في الكتاب، محدودة غالبًا بتوقعّات المنزل والرعاية وواجباتهما. دائمًا ما عملت جورج صاند متأخرةً في الليل، الممارسة التي بدأتها خلال سنيّ مراهقتها إذ اضطرت لرعاية جدتها. عند البدء، رسمتْ مغادرةُ أطفالها وعودتهم في حافلة المدرسة ملامحَ اليوم الكتابي لفرانسين بروز. فيمَ كتبت أليس مونرو خلل “شظايا” الوقت التي أمكنها إيجادها ما بين العناية بالمنزل والأطفال. أما مايا انجلو فقد هربت من جهد البيت بمغادرته كليّةً، نازلةً في غرفة فندقٍ بسيطة، تفكر وتقرأ وتكتب.

حتى أنثوني ترولوب، الذي اشتهر بكتابة ألفي كلمة قبل الثامنة كلّ صباح، فقد اكتسب هذه العادة على الأرجح من والدته، التي بدأت الكتابة في عمر الثالثة والخمسين لدعم زوجها المريض وأطفالها الستة. كانت تصحو في الرابعة صباحًا وتنهي عملها في وقتٍ معين لتقدم الإفطار لعائلتها.

أتأمَّل في كل الكتب واللوحات والموسيقى والاكتشافات العلمية والفلسفة التي عرفتُ عنها في المدرسة- وكلها تقريبًا نِتاج رجال. قال المايسترو زوبِن مهتا ذات مرة: “إني أظنّ أن على المرأة ألا تكون في الأوركسترا،” وكأنَّ لا طاقة لهنَّ لاحتمال الأمر، أو كأنهن يفتقرن للموهبة. (قضَت تجارب الأداء العمياء على هذه الفكرة). أفكّر في مقابلةٍ أجرتها باتي سكالفا حول الصعوبة التي واجهتها في نظم الموسيقى لألبومها الشخصيّ لأن أطفالها دأبوا على مقاطعتها والمطالبة بوقتها على نحوٍ لا يتخذونه أبدًا مع والدهم بروس سبرنغستين. لأدرك فجأةً: لا يعود الأمر إلى افتقار النساء للموهبة كي يتركن بصمتهن في عالم الفكر والفنّ. لقد افتقرن دائمًا للوقت.

لطالما قوطع وقت النساء وتشظى عبر التاريخ. طُوِّقت دوزنة أيامهن بالمهام السيزيفيّة من رعاية بيتٍ وطفلٍ وعشيرة – للحفاظ على روابط العائلة والمجتمع وثيقة. إن كان ما يتطلبه الأمر شريطًا طويلًا من وقتٍ مكثّف لا يُقطَّع، وقتًا يسعك السيطرة عليه، فإنَّه شأن لا تملك النساء ترف رجوّه، دونَ أن يوصمن أقلًا بأنانيةٍ غير لائقة.

حتى اليوم، ورغم كثرة النسوة في القوى العاملة بأجر، فإنهن ما زلن يبذلن ضعف الوقت الذي يبذله الرجال في العناية بالمنزل والأطفال، وأكثر من الضعف أحيانًا. وجدت دراسة لـ32 أسرة من لوس انجلس أنّ وقتَ الفراغ المتّصل لأغلب الأمهات لا يدوم أكثر من 10 دقائق كل مرة. وعند متابعتها حياة الأكاديميين اليومية، وجدت الباحثة السوسيولوجية جويا مسرا وزملاؤها أن ساعات عمل الأساتذة من النساء أطول بكثيرٍ من زملائهنّ الرجال، ما إن نشمل عامل العمل غير المدفوع في البيت. حتى مع ذلك، فقد وجدت أن الرجال والنساء موضع الدراسة أمضوا القدر ذاته من الوقت في عملهم المدفوع. لكن وقت المرأة خلال عملها أيضًا تعرَّض للمقاطعة والتشظّي، مبتورًا أكثر بالعمل الخدمي وَالتدريس وتقديم المشورة. أما الرجال فأمضوا حصةً أكبر من ساعات عملهم في مَددٍ طويلةٍ من وقتٍ غير مستقطع، مفكرين وباحثين وكاتبين ومبدعين وناشرين، ليصنعوا لهم اسمًا ويتقدّموا مهنيًّا وَيحملوا أفكارهم إلى العالم.

في كتابه “نظرية طبقة الرفاهية”، كتب ثورستين فبلن أن من امتلك القدرة على اختيار الوقت والسيطرة عليه عبر التاريخ كان الرجال من ذوي المكانة المرموقة. واستثنى النساء منذ الصفحة الثانية، كاتبًا أنهنَّ، إلى جانب الخدم والعبيد، لطالما تكفلن بمسؤولية العمل السُخرة الذي مكّن هؤلاء الرجال من الإتيان بأفكارهم العظيمة. جادلت الباحثات النسويات بأن النساء حِزنَ أحيانًا، وعلى أكثر تقدير، “رفاهيةً خفيّة”- تتمثل في أنشطة ممتعة، لكنها منتِجةٌ ومقبولةٌ اجتماعيًا، كحياكة اللحف جماعةً أو حفلات حفظ الفواكه أو نوادي القراءة. غير أن الرفاهية الخالصة، أي تسخير وقتٍ للمرء وحده، تُرى كمعادلٍ لفعلٍ شجاعٍ ومقاومَةٍ هدّامةٍ جذرية. من الأسهل على المرأة، كما قال أحد الباحثين تندرًا، أن تخطو خطى الكاتبة والملحنة والفيلسوفة الصوفية هلديغارد من بينغن، وتصبح راهبة.

وجد الباحثون النسويون أن العديد من النساء لا يشعرن، كالرجال، باستحقاقهنَّ مددًا طويلةً من وقتٍ لأنفسهن. ويشعرن أن عليهنّ السعي لاستحقاقه. والسبيل الوحيد لتحقيق ذاك يتم عبر الانتهاء من قائمة مهامٍ لا متناهية: تقتل الواجباتُ اليوميّة أحلام العمر، كما كتبت ميلندا غيتس في كتابها الجديد. لقد جهدتُ واقعًا لانتزاع وقتٍ للتفكير وكتابة هذا المقال لأكثر من أربعة أشهر. فكلما جلست لأشرع في الكتابة، تلقيت مكالمة أو رسالة مرعوبة من زوجي، أو ابني أو ابنتي؛ أو من أمي لأتولى هذه الجبهة الغريبة والوثائق اللامتناهية لأرملةٍ جديدة؛ أو من شركة بطاقات ائتمانية؛ أو ميكانيكيٍّ حول طارئٍ ما يتطلب اهتمامي العاجل لتدارك حلول كارثة.

أذكر لقائي بالأخصائي النفسي ميهاي تشِيكْسَنتْمِهاي، الذي اشتهر بتعريفه للانسياب flow، ذروة التجربة الإنسانية حين يستغرق المرء في مهمّةٍ ذات معنىً حتى يتلاشى الزمن نتيجة ذلك. وهي الحالة التي يذكر الفنانون والمفكرون ضرورتها لخلق كلّ ذي قيمة. سألته إن كان بحثه نظر في ما إن حظيت النساء بالفرصة ذاتها ليخضن هذا الانسياب كالرجال. فكر في الأمر برهة، ثم أخبرني قصة امرأةٍ فقدت الإحساس بالزمن وهي تكوي قمصان زوجها.

عاشت الشاعرة إلينور روس تايلور حياتها تحت ظل زوجها بيتر تايلور، البروفسور والقاص والروائي الحائز على جائزة بوليتزر. “على مدى السنوات، كنت أقول للقصائد “اذهبي، لا وقت عندي الآن” قالت لمقابلها عام 1997. “لكن الأمر كان كسلًا جزئيًا. إن أردت الكتابة حقًا، يمكنك ذلك. لقد واظبت على مسح أرضيات البيت وتشميعها وما نحو ذلك.”

ينتابني إحساس بالضياع حين أفكر بالقصائد العظيمة غير المكتوبة التي اضطرتْ للتراجع من أجل الأرضيات الصقيلة، ولوقتٍ طويل ظننت أن التوقَّع (المفروض عليها) بأن تعتني بالآخرين أولًا وتصقل الأرضيات وأنها من ينبغي عليه تولّي الأمر كله هو ما أبقى تلك القصص غير المحكية مخبوءة داخلها، مكتنزة حدَّ الألم، كما كتبت مايا انجلو. لكني أتساءل إذا ما كانت النساء يشعرن أنهن لا يستحققن وقتًا لأنفسهنّ، أو ما يكفي من مددٍ زمنيةٍ غير مستقطعة. أتساءل إن كنا نشعر أيضًا أننا لا نستحق سرد قصصنا غير المروية، أنها قد لا تستحق أن تُسمَع كغيرها.

ادعى الكاتب ف.س.نايبول ألا وجود لكاتبة تضارعه، وأن كتابة النساء “عاطفية” جدًا، ونظرتهن للحياة “ضيقة” جدًا- لأن حياة الرجال، كما تعلمون، أنموذجُ التجربة الإنسانية. وكثيرًا ما تساءلت: لو أنَّ امرأةً كتبت روايةً من مجلدات ستةٍ مستمدةٍ من حياتها، أكانت ستتحصل الاهتمام والتقدير الدولي ذاته الذي تحصل عليه الكاتب النرويجي كارل اوفه كنوسغار، مؤلف “كفاحي”؟

تخيلتْ فرجينيا وولف ذات مرة مصيرَ شكسبير لو أنه وُلِد امرأة، أو لو كانت له أختٌ توازيه موهبة. (فكروا في العبقرية الموسيقية نانيبرل موزارت، التي أثنى أخوها موزارت على مقطوعاتها الأولى، واصفًا إياها بالـ”جميلة”، لكنها ضاعت، أو ظلّت خبيئةً داخلها، دونَ تدوين، إذ تلاشت في زيجةٍ متوقعةٍ لكن دونَ حب.)

غير أن الحكاية لا تنتهي هنا. لقد تخيلت وولف، في المستقبل، ولادة امرأةٍ عبقرية. ستعتمد قدرتُها في الإزهار -إلى جانب أملها أن يكون لصوتها ورؤيتها قيمة ما- كليًّة على العالَم الذي نقرر خلقه. “ستأتي إن جهدنا لأجلها،” كتبت وولف.

لا أدّعي امتلاكي أيّة عبقريةٍ متمايزة. لكني أحلمُ أحيانًا، بي جالسةً في غرفةٍ معتمة، على مائدة مطبخٍ بمواجهةِ نسخةٍ أخرى عنّي. تجلسُ، في حلٍّ من الوقتِ، بصمتٍ تشرب كوبَ شاي. “أتمنى لو تزورين أكثر،” تقول لي. وأتساءل إن كان وجع منتصف الليلِ الحارق، ذاك الذي يحلّ كهلعٍ يلفّ ضفيرتي العصبية أحيانًا، قد لا تكون مدعاته قلّة الوقت غير المتقطّع لسرد حكاياتي غير المحكية فحسب، بل لخشيتي أنَّ ما يختبئ داخلي قد لا يكون جديرًا بالاهتمام آخر الأمر. لعلَّ هذا ما لا أريد مواجهته في الغرفة المعتمة تلك التي أحلم بها.

أتساءل أيضًا إن كنا فعلًا قد خلقنا عالمًا يمكن فيه لشقيقات شكسبير وموزارت، أو أي امرأةً أخرى، أن تشرق حقّا؟ ماذا سيحدث إن قررنا أن للنسوة حقَّ وقتٍ يذهبن فيه إلى غرفهنّ المعتمة ويمكثن قليلًا على مائدة المطبخ؟ ماذا لو عزمنا أن نزورَ أكثر، نشرب كوبَ شايٍ هادئٍ مع أنفسنا، مصغين إلى حزمة الحكايات وهي تنفرط، موقنينَ أنها ذات قيمة، لأنها حقيقية ببساطة؟ أودّ رؤية ما سيحدث حينها.

[i] نُشر المقال في صحيفة الغارديان بتاريخ 21 يوليو 2019.

[ii]  صحفيّة وكاتبة أمريكية.