أسطورةُ المريخ والزهرة | دبره كامرون

The Jury, Norman Rockwell

هـل يتحدَّث الرجال والنساء اللغة ذاتها؟ أَفي مكنتهم أن يتواصلوا مطلقًا؟ هذه الأسئلة ليست جديدة، فمنذ أوائل التسعينات تنامت موجة اهتمامٍ جديدةٍ بها. أُلِّفَ عدد لا حصر له من كتب تنمية الذات وعلم النفس الرائج راسمةً الرجال والنساء كمخلوقاتٍ غريبةٍ عن بعضها البعض، ومصوِّرةً المحادثات بينهم كفِهرسٍ من سوءِ تفاهمات. تصدَّرَ المتبنّون الأشدّ نجاحًا لهذه الصيغة، كمثلِ دِبرا تانن، مؤلِّفة “أنتَ فقط لا تفهم “، وجون غري، مؤلف “الرجال من المريخ، النساء من الزهرة”، قوائمَ الأكثر مبيعًا على طرفيّ المحيط الأطلسي. ونمت النصائح حولَ كيفية تجسير هوّة التواصل بين الجنسين لتستحيل صناعةً مزدهرة في الإعلام بمختلف ألوانه. يروّج موقع غري الرسميّ، على سبيل المثال، لا لسلسلته المتنوعة من كتب “المريخ والزهرة” فحسب، بل لندوات ومنتجعات وخطَّ هاتف مساعدة وخدمة مواعدة.

ويمكن لِمَن يؤثِر من القرّاء شيئًا أشدَّ متانةً من أن تـ/يتجه صوبَ ضربٍ من كتب العلم الرائج تحمل عناوين من أمثال “جنس الدماغ”، “الجنس و الدماغ”، “الفرق الجوهريّ”، و”لم لا يكوي الرجال”. تشرح هذه الكتب أن الهوة بين الرجال والنساء أمرٌ من عمل الطبيعة (الجبلة)، لا التنشئة.  يختلف الجنسان في كيفية التواصل (وتحسنه النساء أكثر) بسبب اختلاف برمجة أدمغتهم.  إذ أن دماغ الأنثى متفوقٌ في المهام اللغوية في حين أن دماغ الذكر مهيّأ أكثر للمهام الرياضيّة والبصرية-المساحيّة. تحب النساء الحديث، في حين يفضّل الرجال الفعل على الكلام.

يعشق كتّاب/كاتبات هذا المجال تقديم أنفسهم كجاليليو العصر الحديث، مجابهين غضبَ زمرة الصوابية السياسية، في تجاسرهم على تحدّ العقيدة النسويّة التي تنكر أن يكون الرجال والنساء مختلفين جذريّا بطبيعتهم. يشرح سيمون بارون-كوهين، مؤلف “الفرق الجوهري”، في مقدّمته أنه أجَّلَ نشرَ الكتاب لعدّة سنوات لأن “الموضوع كان حساسًا سياسيًّا جدًا”.  في الفصل المتعلق بالاختلاف بين الذكر والأنثى من كتابه عن الطبيعة البشرية، “الصفحة البيضاء”، يهنىْ ستيفن پنكر نفسه على تحلّيه يالشجاعة لقول ما بات طويلًا “يحظر قوله ضمن رفقةٍ طيبة”. يصرّ الكاتبان على كونهما في حلٍّ من أي مقصد سياسيّ يروجان له: إنهما ببساطة يتبعان الدليل أينما انتهى، ويحاولان تقديم الحقائق العلمية على دوغما الصوابيّة السياسية.

لكن قبلَ أن نصفّق، لعله ينبغي علينا أن نتوقف لسؤال أنفسنا: متى خيَّمَ الصمت على الفرق بين الرجل والمرأة؟ ليس منذ أوائل التسعينات بالتأكيد، حين انهدر الخيطُ المتواصل من الكتب الآنفة فصار تيارًا دافقا. واليوم إذ يعلن كاتب أو كاتبة ما طبيعيّةَ فروق الجنس فإنها/ـه لا “يـ/تـقول ما يحظر قوله”: بل إنما هو أو هي يصرّح بنافلة القول لا غير. إن مقولة اختلاف تواصل الرجال والنساء مسلَّمٌ بها على وجه أخص، مع كليشيهات من قبيل “لا يصغي الرجال أبدًا” و”يسهل على النساء الحديث عن مشاعرهنّ” متكررةً باستمرارٍ في كل شيءٍ، من المجلات النسائية إلى بطاقات التهنئة الفكاهية.

أصبحت فكرة أن الرجال والنساء “يتحدثون لغات مختلفة” دوغما في حدّ ذاتها، تعامَل لا بوصفها فرضية تُفحص وادّعاءً يُقضى فيه، بل كركن إيمانٍ لا يشوبه شك. غير أنَّ إيماننا في غير موضعه. كأولئك العلماء الذين ذكرتهم، أؤمن باتباع الدليل أينما انتهى. غير أن الدليل في هذه القضية لا يقودنا إلى حيث يظن أغلب الناس أنه ينتهي. إن فَحَصْنا نتائج أكثر من ثلاثين عامًا من البحث في اللغة والتواصل والجنس، سنجد أنها تنبؤنا بقصة مختلفة وأشد تعقيدا.

إن فكرة اختلاف الرجال والنساء جذريًّا في طريقة استعمالهم اللغة للتواصل أسطورةٌ بالمعنى الاعتيادي: أيّ اعتقاد واسع الانتشار غير أنه خاطئ. لكنها أسطورة أيضًا من حيث كونها قصة يرويها الناس لتفسير ماهيّتهم، من أين أتوا، ولمَ يعيشون نحوًا بعينه. سواءً كانت هذه القصص “حقيقيّةً” بالمعنى التاريخيّ أو العلمي أم لم تكن، فإن لمثلها عواقب في عالم الواقع. فهي تشكّل اعتقاداتنا، وتؤثر من ثمَّ على أفعالنا. وليست أسطورة المريخ والزهرة استثناءً لهذه القاعدة.

فبيئة العمل، على سبيل المثال، نطاق يمكن أن تترك فيه أساطير اللغة والجنس آثار وخيمة. قبل بضع سنوات، سُئل مدير مركز خدمة عملاء في شمال شرق انجلترا من قِبَل محاوِر عن سبب شغل النساء نسبةً عالية من العناصر التي يعيّنها. ألا يتقدّم الرجال بطلب وظائف في مركزه؟ أجاب المدير أن كل الشواغر تستقطب عددًا كبيرًا من طالبي الوظائف من الجنسين، لكن، يشرح المدير: “نحن نبحث عن أشخاص يمكنهم الدردشة مع الآخرين، يتفاعلون وينسجمون. ما نجده أن النساء يفعلن هذا الأمر أكثر… النساء بطبيعتهن جيّداتٌ في هذا الخصوص.” ثم يقرّ بعد عدة لحظات: “أظن أننا، بصراحة، نختار النساء أحيانًا لمجرد كونهن نساء، لا بسبب سمة خاصة أظهرنها خلال المقابلة.”

يعد تنامي مراكز خدمة العملاء جزءً من موجة أكبر في المجتمعات المتقدمة اقتصاديًا. فالكثير من الوظائف تشغل الآن القطاع الخدمي أكثر من قطاع التصنيع، كما تولي الوظائف الخدمية، لا سيما تلك التي تتضمن تعامًلا مباشر مع الزبائن، أهميةً أكبرَ للغة ومهارات التواصل. يشاطر العديد من أصحاب العمل اعتقادَ مدير مركز خدمة العملاء، حول أن النساء بطبيعتهن أحسن تأهيلًا من الرجال لوظائف من هذا النوع، وأحد نتائج هذا الأمر ضرب من التمييز. إذ ينبغي على المتقدمين للوظيفة من الذكور أن يثبتوا امتلاكهم المهارات المطلوبة، في حين يُفترض أن النساء يملكنها فحسب. وفي اقتصاد اليوم المرتكز بشكل متزايد على القطاع الخدمي، قد لا يكون الخبر سارًا للرجال.

ليس وحدهم الرجال مهددون بالخسارة كنتيجة للاعتقاد الشائع بتفوق مهارات النساء الكلامية. بارون-كوهين شخصٌ آخر يعتقد أن النساء بطبيعتهنّ ملائمات لنوع بعينه من العمل. يطرح في كتابه “الفرق الجوهري” النصيحة المهنية “العلمية” التالية: “يبدع الناس من ذوي الدماغ الأنثوي كاستشاريين، ومعلمّي مدارس ابتدائية، وممرضين، ومقدمي رعاية، ومعالجين، وعمال خدمة مجتمعية، وشفعاء، ووسطاء فريق عمل، وعمال شؤون موظفين … أما ذوو الدماغ الذكري فيبدعون كعلماء ومهندسين وميكانيكيين وتقنيين وموسيقيين ومعماريين ومهندسين كهربائيين وسباكين ومصنّفين ومفهرسين ومصرفيين وصانعي أدوات ومبرمجين أو محامين حتى”.

يعكس الفرق بين القائمتين ما يعدّه بارون-كوهين “الفرق الجوهري” بين الدماغين الذكري والأنثوي. إذ تنتفع مهن الدماغ الأنثوي من مُكْنة التعاطف والتواصل، فيمَ تستغل مهن الدماغ الذكري القدرة على تحليل الأنظمة المعقدة. يحتاط بارون-كوهين فيتحدث عن “ذوي الدماغ الأنثوي/الذكري”  عوضًا عن “الرجال والنساء”. ويؤكد أن ثمة رجالًا بأدمغة أنثوية، ونساءً بأدمغة ذكرية، وأفرادًا من الجنسين بأدمغة “متوازنة”. غير أنه يشير إلى أنماط الدماغ الرئيسية بوصفها “ذكرية” أو “أنثوية” لأن الرجال يميلون لامتلاك أدمغة ذكرية والنساء أدمغة أنثوية. وفي مواضع عديدة يبدو واضحًا خلطه بين الجندر وَجنس الدماغ رغم تحذيره بعدم فعل ذلك.

والمقطع المقتبس أعلاه مثال جيد. يصنف بارون-كوهين التمريض كمهنة دماغ أنثوي مبنية على التعاطف (رغم أن ممرضًا أو ممرضةً مهتمة ومتعاطفة لكنها لا تستطيع قياس الجرعات بدقة أو إجراء ملاحظات إكلينيكية منتظمة قد يؤدي أو تؤدي إلى ضررٍ وخيم) والمحاماة كمهنة دماغ ذكري قائم على تحليل النظم (رغم أن محاميًا أو محامية، مهما بلغت مهارتها في المحاماة، لن تنجز شيئًا دون مهارات تواصل وفراسة) . لا ترتكز هذه التصنيفات على تحليلٍ موضوعيّ لمتطلبات هاتين الوظيفتين، بل على المعرفة الشائعة بأن أغلب من يمارس التمريض نساء وأغلب من يمارس المحاماة رجال.

لو قرأت كامل القائمتين، فسيصعب ألا تُفاجأ/ي بـ”فرق جوهري” آخر: أن المهن الذكريّة أكثر تنوعًا وإبداعًأ وأفضل جزاءً من مثيلاتها الأنثوية. تأخذني قائمة مهن بارون-كوهين إلى أيام المدرسة قبل 35 عامًا، حين كانت امتحانات القدرات التي ينبغي علينا إتمامها قبل مقابلة مرشدٍ مهنيّ تُطبع على ورق أزرق أو زهريّ. في أيامنا تلك كنا ندعوها تمييزًا جنسيًا، لا عِلما.

مبدئيًا تتمثل ما أدعوها “أسطورة المريخ والزهرة” ببساطة في مقولة أن الرجال والنساء يختلفون جذريًا في كيفية استخدامهم اللغة للتواصل. تتشاطر جميع نسخ الأسطورة هذا المبنى الأوليّ؛ إضافة لذلك تطرح معظم النسخ بعض أو كلَّ المزاعم التالية:

    • تهمّ اللغة والتواصل النساءَ أكثر من الرجال؛ تتحدث النساء أكثر من الرجال.
    • تتفوق النساء لفظيًا على الرجال.
    • يهدف الرجال عند استخدامهم اللغة إلى إنجاز الأمور، في حين يميل هدف النساء إلى ربط الأواصر مع الآخرين. يتحدّث الرجال أكثر عن أمور وَحقائق، في حين تتحدث النساء أكثر عن الناس والعلاقات والمشاعر.
    • طريقة استخدام الرجال للغة تنافسية، تعكس اهتمامهم العام في حيازة المنصب والحفاظ عليه؛ في حين أن استخدام النساء للغة تعاونيّ، عاكسًا تفضيلهن للمساواة والتناغم.
    • تقود هذه الاختلافات تكرارًا إلى “سوء تواصل” بين الجنسين، إذ يسيء كل جنسٍ تأويل قصد الآخر. يؤدي الأمر إلى مشاكل في كل سياقٍ تتواصل فيه الرجال والنساء، لا سيما في العلاقات الغيرية.

 إن أدبيات المريخ والزهرة، في فنّي تنمية الذات والعلم الرائج كليهما، مهينةٌ للرجل بشكل ملفت. فتظهرهم كمتنمرين وأطفالٍ سريعيّ الغضب، أو كرجال نيندرتال منطوين في كهوفهم. يفرط أحد المساهمين من الرجال في فهرسة هذه الصور النمطية كثيرًا حدَّ تسمية كتابه (لو أمكن الرجال الكلام). إن كتابًا يُسمى (لو أمكن النساء التفكير) كان سيستهجن فورًا؛ فلم يتحمل الرجال كتبًا تضعهم في عداد  لاسي أو سكبي ذَ بوش كنغارو[1] (“هيه، انظر! – أظنه يحاول إخبارنا بشيءٍ ما!”)؟

لعل الرجال أدركوا أن سمعةَ عدم الكفاءة قد تعمل لصالحك أحيانًا. فعلى غرار فكرة فشلهم في العمل المنزلي، فإن فكرة فشل الرجال في الكلام تخدم في إعفائهم من أمر  يفضل كثير منهم تركه للنساء على أي حال. (رغم أن أنواعًا بعينها من الكلام تلك التي يؤثر الرجال تركها للنساء: في مقاماتٍ عديدة لا يواجه الرجال أية صعوبة في التعبير عن أنفسهم- بل يسيطرون على المحادثة واقعًا.)

ينبغي أن ينبهنا هذا إلى أن العلاقة بين الجنسين ليست متعلقةً بالاختلاف [بينهما] فحسب، بل بالسلطة أيضًا. أن يُتوقع من المرأة دائمًا أن تخدم وتعتني بالآخرين علاقةٌ بمكانتهن كـ “ـجنس آخر”. غير أن حقيقة أنّا (ما نزال) نعيش في مجتمعٍ يهيمن فيه الذكر، هي في عوالم المريخ والزهرة بمثابة الفيل في الغرفة الذي يتظاهر بعدم ملاحظته الجميع.

آمن والدي، كالعديد من الرجال ضمن جيله، أن النساء سائقات فاشلات. لطالما صوحبت رحلات العائلة بالسيارة، خلال سنيّ مراهقتي، بتعليق متصل لا متناهٍ عن مدى سوء النساء السائقات من حولنا. حتى فاض بي الكيل آخر الأمر، فصرت أمشط السيارات بحثًا عن أمثلة مضادة: نساء يقدن بكفاءة تامة، ورجال يقودون كالحمقى.

يقرّ والدي عادةً بأن أولئك الرجال حمقى، لكن ليس لكونهم رجالا. ففي حين أن حماقة النساء سببها بديهيًا كونهن إناث، فإن الرجال دونَ المستوى ليسوا إلا “صِفاقًا yobbos” – أناسًا لا يضعون اعتبارًا لمن حولهم في الطريق أو أي مكان آخر- أو “سائقي الأحد”: كبار في السن مهارتهم في القيادة ضعيفة لأنهم لا يقودون سياراتهم في غير عطل آخر الأسبوع. أما عن النسوة اللاتي يقدن دون خطأ، فقد بدا والدي متفاجئًا حين أشرت إليهن. وكأنه لم يلحظهن فعليًا حتى تلك اللحظة.

في ذلك الوقت كنت أحسب والدي استثناءً في مقدرته على تحوير الواقع ليتلائم مع افتراضاته المسبقة، لكني أعرف الآن أنه ليس كذلك. وجد علماء النفس في دراساتهم التجريبية أنه عند تفسير المواقف يلتفت الناس غالبًا إلى الأشياء التي تتفق مع توقعاتهم، ويفشلون عادةً في ملاحظة الأمثلة المخالفة لها.

ليس من الصعب أن نرى كيف لهذه النزعة أن تقود قراء كتب المريخ والزهرة إلى “التعرف” على تعميمات حول طريقة استخدام الرجال والنساء للغة، ما دامت هذه التعميمات تتفق مع صور نمطية مألوفة سلفًا. إن قصة تصوّر،على سبيل المثال، الرجالَ كمحاورين تنافسيين والنساء كمحاوِرات متعاونات ستدفع بالقراء إلى تذكر المواقف العديدة التي لاحظوا فيها رجالًا يتنافسون ونساءً يتعاونّ- دون أن يتذكروا أو يتذكرن المواقف، ولعلها تماثلها عددًا، التي لاحظوا/لاحظن فيها العكس. وإذا استُحضرت الأمثلة المخالفة (“ماذا عن جانيت؟ إنها أشدَّ من عرفت تنافسًا”)، فسيعود الأمر للقراء كي يوظفوا/يوظفن الاستراتيجية الكلاسيكية بوضع هذه الأمثلة ضمن خانة منفصلة للاستثناءات (“طبعًا، لقد نشأت مع ثلاثة إخوة/ إنها المرأة الوحيدة في القسم/ إنها تعمل في قطاع تنافسيٍّ جدًا”).

فيما يتعلق بالرجل والمرأة، فإن أبسط صورنا النمطية تتوقع ببساطة اختلافهما لا أن يكونا متشابهين. إننا نترصد الاختلافات وننقب عن المصادر التي تناقشها. أغلب الدراسات البحثية التي تحقق في سلوك الرجل والمرأة مهندسةٌ حول سؤال: هل ثمة اختلاف؟ والافتراض يضمر دائمًا وجود هذا الاختلاف. حين تجد دراسة اختلافًا معتبرًا بين الذكور والإناث موضع البحث، تُعد هذه النتيجة “إيجابية”، ولذا يتحقق لها حظ أوفر في النشر. أما الدراسة التي لا تقع على اختلافٍ معتبر ففرص نشرها أقل.

لا يقرأ أغلب الناس الدوريات الأكاديمية بالطبع: بل يستقون معلوماتهم عن نتائج البحوث العلمية من التقارير التي تظهر في الجرائد أو الوثائقيات العلمية المتلفزة. عادةً ما تبرز هذه المصادر الاختلافات بين الذكر والأنثى حيث يعي منتجو الإعلام بوجود اهتمامٍ بهذا الموضوع. غير أن المعايير التي يعتمدها المنتجون لاختيار أي الدراسات تُنقَل وكيف تقدَّم تزيد من تحوير الموضوع. ويحدث أحيانًا أن تصدح العناوين بحقائق مزعومة يتضح عند فحصها ألا دليلَ تنبني عليه.

ففي 2006، على سبيل المثال، زعم كتاب علمي شائع يدعى “الدماغ الأنثوي”  أن النساء ينطقن بمعدّل 20 ألف كلمة في اليوم، في حين ينطق الرجال ما معدله 7 آلاف كلمة فحسب. مثّل هذا [الادعاء] مادّةً ملائمة لعلمٍ سريع التداول- إذ أكد الاعتقاد الشائع لا بأن النساء هن الجنس الأكثر ثرثرة فقط، بل أنهن أكثر ثرثرة بثلاثة أضعاف- وَنُشر في الجرائد حول العالم.

كان مارك ليبرمان أحد من وجدوا تصديق هذا القول مستحيلًا، وهو بروفسور في الصوتيات عمل بتوسعٍ على تحليل الكلام المسجَّل. دفعه شكه إلى تدقيق هوامش “الدماغ الأنثوي” بحثًا عن المصدر الذي استقت منه المؤلفة أرقامها. ما وجده لم يكن مرجعًا علميًا بل إشارة إلى كتاب تنمية ذاتية. عند اقتفائه أثر  المعلومة في أجمة الأدبيات الرائجة، وقع ليبرمان على عديدٍ من المزاعم الإحصائية المتناقضة. تفاوتت الأرقام بشكل واسع: فيعطي مؤلفون مختلفون (بل أحيانًا المؤلف ذاته في كتب مختلفة) معدّلًا للكلمات التي تنطقها المرأة يوميًا يتراوح بين 4 آلاف و25 ألف كلمة . ما أمكن لليبرمان استنتاجه هو أن هذه الأرقام اخترعت من فراغ. لم يورد أي من هؤلاء بحثًا حقيقيًا يدعم ادعائهم. فاستنتج أن ما من أحد أجرى مطلقًا دراسة تحصي الكلمات التي نطقها عينة من الرجال والنساء خلال يوم واحد. تفاوتت الادعاءات كثيرًا لأنها كانت مجرد تخمينات.

بعد إشارة ليبرمان إلى الأمر في مقال صحفي، أقرَّت مؤلفة “الدماغ الأنثوي” بأن زعمها لم يكن مدعومًا بالدليل وذكرت أنه سيحذف من النسخ المقبلة. غير أن الضرر وقع وانتهى: فستعلق المقولة واسعة التداول بأن النساء يتحدثن ثلاثة أضعاف ما يتحدث الرجال في ذاكرة الناس وسيعاد تدويرها في أحاديثهم، ففي حين أن التراجع ضيق الانتشار لن يحدث الأثر ذاته. هكذا تتخذ الأساطير منزلة الحقائق.

هل تختلف النساء والرجال في حديثهم كثيرًا؟

في عام 2005، ظهر مقال في دوريّة American Psychologist  تحت عنوان “نظرية الشبه الجندريّ”. برز العنوان بوصفه غير اعتياديّ، ذلك أن هدف غالب الدراسات البحثية، كما رأينا، إيجاد أوجه الفرق لا الشبه بين الرجال والنساء. إلا أنه عند فحص نتائج هذه الدراسات عن كثب، كما أشارت جانيت ش. هايد، فإنها كثيرًا ما تظهر من التشابه أكثر من الاختلاف.

هايد عالمة نفسية مختصة في “التحليل الفوقي”، التقنية الإحصائية التي تتيح للمحلل المقابلة بين العديد من نتائج البحوث المختلفة واستنباط خلاصة شاملة منها. يؤمن العلماء أنْ دراسة واحدة بعينها لا تظهر أي شيء: تعد النتائج موثوقة حين تستنسخ في أبحاث مختلفة. لنفترض أن السؤال هو: من يقاطع أكثر، الرجال أم النساء؟ ستجد بعض الأبحاث أن الرجال يقاطعون أكثر، في حين تجد أخرى أنهن النساء، وثالثة لا تجد فرقًا معتبرًا بينهما. في بعض الأبحاث سيكون الفرق المذكور في الجندر كبيرًا، وفي أخرى أصغر منه. كما أن عدد الأشخاص الذين خضع سلوكهم للدراسة سيتفاوت من دراسة لأخرى. يتيح لك التحليل الفوقي جمع النتائج المختلفة، مع تحديد الأمور التي تجعل المقارنة المباشرة بينها صعبة، وحساب الأثر الكلّي للجندر على سلوك المقاطعة.

استخدمت هايد هذه التقنية لمراجعة عدد كبير من الدراسات المهتمة  بكل أصناف الفروق المفترضة بين الذكر والأنثى. في الجدول 1، استخلصتُ النتائج المتعلقة فقط بتلك الدراسات التي تناولت الفروق الجندرية في السلوك اللغوي والتواصليّ.

لقراءة هذا الجدول، ينبغي عليك معرفة أن “ف” هي الدالة التي تشير إلى حجم الفرق الجندريّ الكليّ: قيمة “ف” السلبيّة – تشير إلى أن الإناث متقدمات على الذكور، في حين أن القيمة الإيجابية + تشير إلى أن الذكور متقدمون على الإناث.

gender difference

جدول الفروق الجندرية في السلوك اللفظي/التواصلي مقتبسًا من هايد، “نظرية الشبه الجندريّ”.

لذا فإن الجدول يخبرنا، مثلًا، بأنه عند جمع نتائج دراسات مختلفة، تظهر الخلاصة الكليّة أن الرجال يقاطعون أكثر من النساء، وأن النساء يكشفن عن ذواتهن أكثر من الرجال. غير أن أشدَّ المعلومات لفتًا للانتباه تتمثل في العمود الأخير، والذي يخبرنا ما إذا كان الرقم الفعلي لـ”ف” يشير إلى أثرٍ كبير جدًا، كبير، معتدل، صغيرـ أو قريبٍ من الصفر. إن الفرق الكلي المبني على الجندر في أغلب الحالات إما صغير أو دانٍ من الصفر. خانتان فقط، هما دقة الإملاء وتواتر التبسّم، تظهران أثرًا أكبر، لكنه يبقى أثرًا معتدلًا فقط.

ثمة بضع مجالات وجدت فيها هايد أثرًا كبيرًا أو جدَّ كبيرٍ للجندر. على سبيل المثال، أظهرت الدراسات حول العدائية وَإلى أي مدىً يرمي الناسُ بالأشياء فجوةً معتبرةً بين الجنسين (الرجال أشد عدوانية ويرمون أبعد). لكن الفروق كانت صغيرة في دراسات السلوك والقدرات اللفظية. ليس هذه الملاحظة جديدة. فقد أجرت هايد وزميلتها مارسيا لِن تحليلًا فوقيًا للأبحاث المتعلقة خاصةً بالفروق الجندرية في القدرات اللفظية. وكانت النتيجة التي خلصن إليها أن الفرق بين الرجال والنساء يمثل “عُشْرَ  انحرافٍ معياريٍّ واحد تقريبًا” – وهو التعبير الإحصائي عن كونه “مهمل”. يقترح باحث آخر فحص السؤال ذاته، هو اللغويّ جاك تشامبرز، أن درجة عدم التداخل non-overlap بين قدرات المتحدثين الذكور والإناث في أيِّ جماعة كانت تنحو “حول 0،25%”. أي درجة تداخل نسبتها 99،75%. مما يترتب عليه القول أنه لكل مجموعة قدرات لفظية نجدها في امرأة ما، فغالبًا ثمة بالتأكيد رجل يملك مجموعة القدرات ذاتها.

إن إحالة تشامبرز إلى الرجال والنساء كأفرادٍ تشير إلى مشكلة أخرى في تعميماتٍ من قبيل “يقاطع الرجال أكثر من النساء” أو”تتحدث النساء أكثر من الرجال”. فإضافة إلى تهوينها من أوجه الشبه بينهما، فإن المقولاتٍ على هيئة “النساء يفعلن كذا والرجال يفعلون ذاك” تموّه مدى الاختلاف القائم داخل كل فئة جندريّة. لدى شرحه سبب ردّه بالتشكيك المباشر في الزعم القائل بأن النساء يتحدثن ثلاثة أضعاف أكثر من الرجال، يتنبأ ليبرمان بالقول: “أيًا يكن معدل الفرق بين الرجل والمرأة، سيكون صغيرًا حال مقارنته بالفرق ما بين النساء أنفسهن وبين الرجال أنفسهم”. إن التركيز على الفرق بين الرجال والنساء مع تجاهل الفرق داخل الفئتين مضللٌ للغاية، إلا أنه شائع للأسف.

 

هل تتحدث النساء أكثر من الرجال حقًا؟

إذا ما كنا سنحاول التعميم حول أي الجنسين يتحدث أكثر، فإن السبيل الوثيقة لذلك هي مراقبتهما خلال الحدث التواصلي ذاته، وقياس مساهمتهما فيه. فيخلصنا هذا من العوامل المتغيرة العرضيّة التي قد تؤثر في مقدار الحديث (كأن يقضي أحدهم يومه في منتجع بوذي أو في ملتقى لزملاء الثانوية)، ويتيح مقارنة سلوك الذكر والأنثى تحت الشروط السياقية ذاتها.

أجريت العديد من الدراسات مستخدمةً هذه المقاربة، وإذ اختلفت المخرجات، فإن أكثر النتائج شيوعًا هي أن الرجال يتحدثون أكثر من النساء. تصنف إحدى المراجَعات لست وخمسين بحثًا النتائجَ على النحو التالي:

نمط الفرق الموجود/ عدد الدراسات

الرجال يتحدثون أكثر من النساء /  34 (60،8%)

النساء يتحدثن أكثر من الرجال / 2 (3،6%)

تتحدث الرجال والنساء بالقدر ذاته / 16 (28،6%)

لا نمط محدد /  4 (7،0%)

    • المصدر: من دبرا جيمس وجانس دراكش، “فهم الفروق الجندرية في مقدار الحديث”، في دبرا تانن (تحرير)، الجندر والتحادث

تميل المراجِعتان إلى الاعتقاد بكون المسألة مسألة علاقة لا مباشرة بين الجندر ومقدار الحديث ، أكثر من أن تكون مباشرة: أما العلاقة المباشرة فتقوم بينه وبين المنزلة، إضافةً إلى رسمية السياق (تبدو المنزلة ذات صلة أكبر في المواقف الرسمية).  ينحو الأمر عمومًا، لا سيما في السياقات الرسميّة والعامّة، إلى أن يتحدّث المتكلمون ذوو المنزلة الأعلى أكثر من ذوي المنزلة الأقلّ. يُفسَّر النمط الجندريّ عبر ملاحظة أنه في أغلب السياقات ذات الصلة بالمنزلة، يرجح أن يشغل الرجال المناصب الأعلى منزلةً أكثرَ من النساء؛ بافتراض تساوي كلّ العوامل الأخرى، فإن الجندر نظام هرميّ يُعتَبر فيه الرجال أعلى منزلة.

وَ”يُعتَبر” مفردة مهمة هنا، لأن الهيمنة التحادثيّة لا تقتصر على سلوكِ المتحدثين المهيمنين، بل تشمل أيضًا ميل الآخرين للإذعان لهم. وجدت بعض الدراسات التجريبية أن نمط “الرجال يتحدثون أكثر” قابلٌ للعَكس، أو على الأقل لتقليل الفجوة، حين يُطلَب من الخاضعين للبحث مناقشة موضوع يعتبره كلا الجنسان مجال خبرةٍ أنثوية على وجهٍ خاص. ليست المنزلة إذن صفةً ثابتةً تمامًا، بل يمكن أن تتغير تبعًا للموقف والمشاركين وغرض المحادثة.

ولعلّ ذلك يفسر لمَ تجد بعض الدراسات أن النساء يتحدثن أكثر في المحادثات المنزليّة مع الأزواج وأفراد البيت: يُنظر للنساء عادةً كصاحبات المسؤولية داخل النطاق المنزليّ. أما في النطاقات الأخرى، فإن الافتراض القائم ينطوي على أن الرجال يعلون النساء منزلة، وفيها تجد [الدراسات] أن الرجال عادةً يتحدثون أكثر. في السياقات غير الرسميّة حيث لا تكون المنزلة قضية، ليست أشيع النتائج أن النساء يتحدثن أكثر من الرجال، بل أن الجنسين يساهمان في الحديث بتساوٍ.

ما سبب ديمومة الاعتقاد الشعبيّ بأن النساء يتحدثن أكثر من الرجال إن لم يكن يعكس الواقع؟ اقترحت النسويّة ديل سبندر تفسيرًا ذات مرة: فقالت أن الناس تفرط في قياس مقدار حديث النساء لأنها تفترض، مبدئيًا، أن النساء لا ينبغي أن يتحدثن مطلقًا. وفي حين قد يكون هذا القول فضفاضًا، فإن من السليم القول بأن الاعتقاد بثرثرة النساء مقرونٌ عامةً باستنكاره. تميل مقولة “تتحدث النساء أكثر من الرجال” لتنطوي على حكمٍ بأن “النساء يتحدثن كثيرًا”. (كما يعبّر عن ذلك بكلّ سحرٍ مثلٌ قديم: “كثرة نساء، كثرة حشو؛ كثرة إوزٍ، كثرة بعر”.)

يستديم الاعتقاد الشعبيّ بكون النساء يتحدثن أكثر من الرجال لأنه يقدّم تبريرًا لتحيّز اجتماعي متجذر. وعلم النفس التطوّري خاضع للنقد ذاته: إذ يأخذ تحيّزات عصرنا الاجتماعيّة فيعكسها على ما قبل التاريخ، رافعًا من شأن هذه التحيزات لمنزلة الحقائق الأزليّة عن الطبيعة البشرية.

غالبًا ما يقول دعاة المقاربة التطوّرية أن حجج معارضيهم مبنيّة على التحامل لا الحقائق والمنطق. ويشتكون من أن النسويات وصنوف من ذوي “الصوابية السياسية” يستنكفن مجرد التمعن في فكرة أن أسباب الفرق بين الجنسين قد تكون بيولوجية لا اجتماعية؛ أن هؤلاء النقاد ذوي الدوافع السياسيّة، بدلًا من فحص الحجج والتمعن في جدارتها، إنما يستهجنونها كليةً ويصمون دعاتها بالرجعية والتعصّب.

غير أن في قصص هؤلاء هنةٌ بسيطة: إنها تستند لا على حقائق، بل على أساطير.

[1] كلبةٌ وكنغر يظهران في الأفلام كأصدقاء للأطفال.

 

*

مقتبس من كتاب “أسطورة المريخ والزهرة” لدبره كامرون.

دبره كامرون: لغوية نسوية تعمل بروفسورة في جامعة أوكسفورد.